55
أيـام, وكانـت أمـي طيلـة هـذا الوقـت تلتصـق بجثـث إخوتـي الشـهداء، وزوجـة أخـي إيمـان التـي لحقـت
بهـم هـي الآخـرى, لـم تفارقهـم لحظـة، وكنـا نظـن أن أخـي ناهـض قـد استشـهد هـو الآخـر، فلـم نـره منـذ
هـرع للاسـتغاثة.
بعـد ذلـك دخـل جنـود الاحتـ ل بجرافاتهـم ودباباتهـم, فأحاطـت ثـ ث دبابـات بالبيـت الـذي كنـا نحتمـي
فيــه وجيراننــا، كنــا حوالــي خمســة عشــر فــردا, فطلبــت منــا الجــارة أن نرفــع الرايــات البيضــاء ونخــرج,
خرجنـا حفـاة حاسـري الـرؤوس، وزخـات الرصـاص كالمطـر فـوق رؤوسـنا، والدبابـات مـن ورائنـا, والبيـوت
هــدم, خرجنــا مســرعين مثقليــن بهمومنــا وأحزاننــا، وصلنــا إلــى دوار جباليــا, وهنــاك اســتقبلنا
ُ
مــن حولنــا ت
هــا وأختــي
َّ
قل
ُ
المســعفون, وســاعتها انهــارت أمــي الحامــل فــي شــهرها الثانــي، فتقدمــت ســيارة إســعاف لت
سـناء التـي أصيبـت فـي ظهرهـا إلـى مستشـفى العـودة، وفقـدت أمـي هنـاك جنينهـا..
هنـا تدخلـت جـدة الشـهداء «هانـم أم سـالم » (16عامـا)، لتنقلنـا إلـى ذاكرتهـا وذكـرى الحـرب فيهـا،
لتقـول:» فـي أول أيـام الحـرب اصطحبـت «فـداء» أختهـا «سـناء» إلـى بيـت خالهـم لقربـه مـن مدرسـتهما،
كنــا نظــن أن الأمــر لــن يطــول، وبعــد ذلــك قــرر والدهمــا أن يذهــب إلــى بيــت خالهمــا، ليعيــد ابنتيــه
«ســناء» و«فــداء» إلــى بيــت العائلة..أبــدت فــداء خوفهــا مــن العــودة للبيــت، لكنهــا عــادت مــع إصــرار
الأب..
ومـا أن ذكـرت الجـدة اسـم «فـداء»، حتـى تنهـدت الأم المكلومـة متسـائلة أيـن «فـداء»!! مـا فـي أحلـى
مــن «فــداء»، نظــرت الجــدة بعيــن حزينــة مواســية الأم بقولهــا: «فــداء راحــت لعريســها فــي الجنــة يــا
بنيتـي», تـرد الأم: «ليـش راحـت ليـش ليـش» أجابـت الأم علـى نفسـها بصمتهـا، ثـم تسـاقطت الكلمـات
مـن لسـانها بـ قـرار مـن وعيهـا لتقـول:» فـي ذلـك اليـوم قالـت لـي «فـداء» أريـد أن ألبـس حذائـي الجديـد،
فنصحتهـا بـألا تفعـل، وأن تخبـأه لمناسـبة سـعيدة قادمـة، فأصـرت وقالـت بأننـي سأشـتري أفضـل منـه فـي
تهـا البهيـة، وسـألتها:
َّ
بملابسـها، فاجأتنـي بطل
ً
المسـتقبل، يومهـا وعلـى غيـر العـادة اهتمـت «فـداء» جـدا
«مــاذا تضعيـن علـى وجهـك»، وهـي تقـول:« والله لاشـيء يـا أمـاه, كان وجهــا أبيضــا أبيضــا», كانـت
فـداء كالقمر..ثـم عـادت الأم تسـرح فـي خيالهـا بشـفاه مطبقـة.
إ حضـار
�
عـادت الجـدة لتكمـل حكايـة ذاكرتهـا: بعدمـا انسـحب الاحتـ ل، ذهـب الأخـوال لتفقـد المـكان و
جثــث الشــهداء, انتشــلوهم مــن بيــن الــركام، وجــدوا «راكان» فــي المــكان الــذي وصفتــه «نــداء», وبعــد
حوالــي عشــرة أيــام وهــم يبحثــون بيــن الــركام عمــا يصلــح لافتراشــه فــي زمهريــر الشــتاء، وجــدوا الجــزء
العلــوي مــن جثــة الوالــد أبــو ناهــض (54عامــا) ودفنــوه بالقــرب مــن أبنائــه...
وحـارا، وقالـت لمـاذا ذهبـوا وتركوني..حسـبي الله ونعـم الوكيـل,
ً
عميقـا
ً
هنـا أخـذت «أم إبراهيـم» نفسـا
ثـم رددت:» متـى سـينتهي عمـري أنـا الآخـرى»، بكـى الجالسـون وهـي تضـم إليهـا ابنتهـا «ملـك» بقـوة
وتقـول:» لمـاذا حرموهـا مـن أبيهـا، كل يـوم تبكـي وتنـادي أريـد بابـا, حتـى أنهـا حينمـا تـرى أولاد خالهـا
يلعبـون مـع والدهـم، تحـاول إبعادهـم لتأخـذ محلهـم».