مقاومةٌ من نوعٍ آخر، خطَّها الأسرى الفلسطينيون المغيبون خلف غياهب السجون، الذين بقوا عصيّين على الانكسار رغم كل محاولات الإذلال التي تتبعها "إسرائيل" بحقهم، والأحكام العالية جدًّا التي تصدرها بهدف إشعارهم بأنهم سيقضون بقية حياتهم خلف القضبان، حتى يتسلل اليأس إلى نفوسهم.

لكنّ الأسرى الفلسطينيين أثبتوا أنهم ماضون في تحدي "إسرائيل" إلى ما لا نهاية، وبينوا أنهم برغم الظلام الذي يلفهم إلا أنهم يرون الضوء في نهاية النفق، وأنهم مؤمنون بأن "إسرائيل" إلى زوال، وأنهم سينتشقون عبق الحرية رغمًا عن أنفها، فهرّبوا نطفًا ذكرية لتُزرع في أرحام زوجاتهم لينجبن لهم أولادًا يحملون القضية من بعدهم، ويرفعون الراية من خلفهم. "نساء من أجل فلسطين" ترصد هذا التحرك الجديد للأسرى خلال التحقيق التالي:

بهجة حياتنا

"لقد ملأ علينا حياتنا، وأسعدنا بوجوده معنا، وأسأل الله أن يرزق جميع الأسرى مثلما رزقنا، ويغير حياتهم للأفضل". هكذا بدأت زوجة الأسير عمار الزبن أم مهند حديثها إلى "نساء من أجل فلسطين" بعد أن كانت أول زوجة أسير تنجب طفلاً عن طريق تهريب "نطفة ذكرية" من زوجها المحكوم بستة وعشرين مؤبدًا وخمسة وعشرين عامًا.

وأضافت: "أنا أشعر بالفرح الشديد أن أكرمنا الله بـ"مهند" رغم بعد عمار عنا وغيابه خلف غياهب السجون والوحدة التي كنا نعيش فيها، فنحن الآن سعداء جدًّا بوجود مهند بيننا، وشقيقتيه بشائر (17 عامًا) وبيسان (15 عامًا) ، فقد ملأ عليهما حياتهما، وعوض لحدٍّ ما غياب الأب".

وعمار الزبن أسير فلسطيني تقطن عائلته مدينة نابلس، وكان قد اعتقل للمرة الثالثة في الحادي عشر من كانون ثاني/ يناير عام 1998 بتهمة الانتماء لـ "كتائب القسام" والمشاركة في سلسلة عمليات فدائية ضد الاحتلال وجنوده ومستوطنيه، ويقضي حكمًا بالسجن الفعلي لمدة 26 مؤبدًا و25 سنة، أي (2599) سنة.

وهو متزوج من دلال ربايعة من بلدته ميثلون قضاء جنين، وله ابنتان "بشائر" وكانت في عامها الثاني حين اعتقاله، و"بيسان" والتي ولدت بعد اعتقال والدها، وهو ابن لشهيدة اسمها عائشة سئمت الاعتصامات أمام مقرات الصليب الأحمر، وملت من المسيرات، ولم تعد ترغب في سماع بيانات الشجب والاستنكار، ومضت في طريقها إلى أن حلقت روحها إلى جوار ابنها الشهيد "بشار" بتاريخ 29-8-2004 خلال إضرابها عن الطعام تضامنًا مع الأسرى في إضرابهم الجماعي عام 2004، فكانت أولى ضحايا الإضراب، فيما والده عبد الرحمن توفي هو الآخر في 29 نوفمبر عام 2009م، وبذلك يكون عمار قد فقد والديه خلال الاعتقال، وانضم إلى قافلة الأسرى المكلومين من أمثاله.

اقتراح "عمار"

وتابعت الزبن قائلة: "لقد كبرت بناتي ونحن نعيش لوحدنا، فأحدثت ولادة مهند تغييرًا كبيرًا في حياتنا، خاصةً أن جدتهم "أم عمار" شهيدة، وجدهم قد توفي، وعمهم الوحيد شهيد"، لافتةً إلى أن اقتراح الإنجاب بهذا الشكل كان اقتراحًا من عمار في عام 2005م، خاصةً أنها لا تملكُ بيتًا لأن بيت أهل زوجها كان بالإيجار، بجانب أنه كان محرومًا من البيت والأسرة والأولاد، وكان يفكر كثيرًا في شقيقتيه المتزوجتين، وأنهما لا تجدان أحدًا يقف معهن عند الحاجة أو يزوروهن في المناسبات.

وبينت أن زوجها كان يخشى أن تعيش ابنتاه نفس حياة شقيقتيه، فلا تجدا من يعينهما، خاصة أن حكمه طويل جدًّا ولا يعرف إن كان سيخرج من السجن وهو على قيد الحياة، فأكد لزوجته أنه قد استشار مُفتين في هذا الأمر، فبينوا له أن هذا ليس حرامًا، تقول: "استصعبتُ الأمر وخفتُ من كلام الناس، فطلب مني زوجي أن أفكر على مَهَل وأن أستشير أهلي وعائلته".

ولفتت إلى أنها استشارت أهلها وأخبرتهم بما يريده زوجها، فراقت لهم الفكرة كثيرًا، خاصةً أنهم يعلمون أن تحب زوجها وكرست حياتها لتربية بناته، فلم يكن هناك أي معارضة من قبلهم لذلك، وكانوا يرون أن فرصها في الإنجاب تقل، خاصةً أن عمرها صار 32 عامًا، وقد اعتقل عمار وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وكان عمر بشائر عامًا واحدًا وكانت حاملاً بـ"بيسان" في الشهر الرابع.

وقالت: "عندما وجدتُّ أهلي لم يعارضوا، استشرتُ أهل زوجي الذين سعدوا جدًّا لهذا القرار، وسألوني ما إذا كنتُ مستعدةً لذلك، فقلتُ لهم "أنا أقدم روحي لعمار"، فقالوا لي طالما الشرع لا يعارض ذلك، فليس لدينا أي مانع، ثم توجهتُ لمركز "رزان" للإخصاب وأخبرتُ مديره بنيتي تلك، فقال سنساعدك في ذلك طالما لا يتعارض مع الشرع، لكن بشرط أن تشهري الأمر وأن يعلم كل العالم بذلك".

تشجيع كبير

وتبين الزبن أن الفكرة بقيت فكرة لمدة سبعة أعوام حتى عام 2012م، وما دفعها لتنفيذها عمليًّا هو أنَّ الناس في كل مكان باتوا يسألونها لماذا لم تجرِ عملية الزراعة حتى اللحظة، ولمَ لمْ تكوني أسرة حتى الآن، ولماذا تحرمين زوجك من الإنجاب؟! فقررت العودة لمركز الإخصاب ثانيةً "فطلب مني إحضار العينة، ويسّر لي كل السبل لإنجاح عملية الزراعة".

وتضيف: "أجريت عملية زراعة للمرة الأولى ونجحت، واستمر الحمل لثلاثة شهور، لكن مع كثرة الزوار والمهنئين لم أستطع أن أرتاح مما أدى إلى إجهاض الحمل، ثم قمت بعملية زراعة ثانية ففشت، ثم في عملية الزراعة الثالثة حملتُ بـ"مهند"".

وشجعت كل زوجة أسير على أن تحذو حذوها، قائلةً: "ما ذنب زوجة الأسير التي يتزوجها صغيرة، لتُحرم من الأسرة والأولاد، فهي ما دامت تضحي لأجل زوجها وتنتظره، فلا أقلَّ من أن يخرج فيجد لديه أولادًا فيشعر بأنه لم يغب عنهم، وأنَّ وجهه هو الذي غاب فقط، فالزوجة الفلسطينية الصابرة والمضحية التي تحب زوجها وبيتها لن تجد ضيرًا في أن تنجب أطفالاً وتربيهم لزوجها المجاهد خلف قضبان السجون".

أربع حوامل جدد

وأعلن مركز "رزان" لعلاج العقم وأطفال الأنابيب بمدينة نابلس عن نجاح حمل أربع من زوجات الأسرى بعد تمكنهم من تهريب نطف منوية من داخل سجون الاحتلال، وهنَّ: رماح السيلاوي زوجة الأسير أسامة السيلاوي من جنين، وسلام نزال زوجة الأسير علي نزال من قلقيلية، وزوجة الأسير رأفت القروي، وليديا الريماوي زوجة الأسير عبد الكريم الريماوي من رام الله وجميعهم من الأسرى ذوي الأحكام العالية.

وبين مدير عام المركز د. سالم أبو خيزران، في تصريحات صحفية أن ولادة مهند الملقب بـ"سفير الحرية" في رمضان الماضي لزوجة الأسير عمار الزبن، فتح الباب أمام مئات الأسرى من ذوي الأحكام العالية ليحققوا أحلامهم بأن يكون لهم أطفال، مشددًا على ضرورة إشهار الحمل تماشيًا مع عادات وتقاليد المجتمع الفلسطيني، مؤكدًا على ضرورة وجود أقارب من الزوجة والزوج ساعة إحضار العينة وتسليمها إلى المركز، ليتم بعد ذلك فحصها بدقة وتسجيلها بالحواسيب والأوراق الرسمية، لافتًا إلى أن الطريقة التي يتم إخراج الحيوانات المنوية بها من داخل سجون الاحتلال صعبة ومعقدة".

سلام نزال زوجة الأسير علي نزال المحكوم بالسجن عشرين عامًا قضى منها ستة أعوام، وهي حامل الآن في شهرها الثاني، بينت لـ"نساء من أجل فلسطين" سعادتها بأنها تحمل بطفلٍ ذكر من زوجها الأسير ليكون شقيقًا لبناتها الثلاث، مبينةً أن بناتها وعائلة زوجها في غاية السعادة لهذا السبب.

وأشارت إلى أن زوجها عرض عليها الأمر منذ عامين، لكنها كانت تخشى من تقبل هذه الفكرة اجتماعيًّا، لكن بعد أن سمعت الفتاوى الخاصة بهذا الشأن تشجعت، بل وتدعو كل أهالي زوجات الأسرى اللاتي يرغبن في ذلك تشجيعهن وعدم الوقوف في طريقهن.

تحقيق الحلم !

المختص بشئون الأسرى عبد الناصر فروانة يقول في مقالٍ له بعنوان "بعد تهريب "نطفة منوية".. أسير يزرع طفلا رغم السجن والمؤبد..!!" إنَّ فكرة إنجاب أطفال عبر "الخلوة الزوجية" أو "التلقيح الصناعي"، هي فكرة تراود العديد من الأسرى لا سيما ممن يقضون أحكامًا بالسجن المؤبد، وقد نُوقشت تلك الفكرة فيما بينهم بشكل صامت وفي إطار ضيق منذ أكثر من عشرين عامًا، ولاقت قبولاً لدى بعض الزوجات.

ويضيف: "خلال السنوات الماضية تجرأ عدد من الأسرى في تحويل الفكرة إلى واقع، وتمكنوا من تهريب "نطف منوية" لخارج السجون، وبالرغم من محدوديتها وعدم نجاحها، إلا أنها عكست ما يدور في وجدان الأسرى وزوجاتهم من رغبة جامحة في تحدي السجان وتحقيق حلم الإنجاب".

ويتابع: "عمار زرع طفلاً في ظلام السجن وبطريقته الخاصة والشرعية، ليبصر مهند النور خارج السجن بين أهله وأسرته، ليشكل عنوانا لمعركة علنية خاض غمارها نيابة عن كافة الأسرى من أجل انتزاع حقهم المشروع بالإنجاب، وليحتفل بطريقته الخاصة مع إخوانه الأسرى بين جدران غرف السجن الإسرائيلي، بنجاح تجربته وتحقيق الانتصار رغم السجن وحكم المؤبد".

ويلفت إلى أن الأسرى هم جزءٌ من النسيج الاجتماعي، ومن حقهم "الإنجاب" عبر التلقيح الصناعي "إذا توفرت الإجراءات والشروط المتطابقة مع الشريعة الإسلامية"، مع ضرورة إيجاد حاضنة اجتماعية ووطنية وسياسية ودينية لدعم هذا الحق والتأكيد على إجازته وحماية زوجات الأسرى من التلسُّن والإساءة، وسن قوانين وآليات لتنظيم العملية.